في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٦

د. محمد جلال هاشم - 18-07-2020
في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٦ | د. محمد جلال هاشم

الحلقة رقم (6)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية


الشّعوبُ كما الأوطان، لا تُدانُ كما لا تُلعن!
كثيراً ما نسمع أصوات الإدانة والتّجريم تصدر من بعض النّاس تجاه شعوبٍ بأكملها، دامغين لها بما قلّ أو زاد من موبقات واتّهامات. هذه الظّاهرة ليست وقفاً على الآخر، بمعنى أن يقوم شخص ينتمي للشّعب (أ) بتوجيه الإدانة والتّجريم للشّعب (ب). بل يمكن أن نجد الكثير من الحالات التي يتصدّى فيها أُناس لتسجيل الإدانة للشّعب الذي ينتمون إليه. هذا بجانب العديد من التّعابير السّالبة بحقّ الوطن. هنا لا يعنينا تبلور خطاب وطني بعينه يبدو ظاهريّاً أنّه يستضمن موقفاً سلبياً تجاه الوطن، بينما هو ليس كذلك. ومن أشهر هذه الأنواع الخطابية ما يرد في رواية زوربا اليوناني لنيقوس كازانتزاكي؛ وفي السودان هنا يمكننا أن نمثل لديوان سيد أحمد الحاردلو المعنون: ملعون أبوك بلد! مثل هذه الأساليب الخطابية التي تقع في باب المدح بما يشبه الذّم، لا تعنينا هنا. فكل من يقرأ كتاب زوربا يشعر بما لا يدع مجالاً للشك مدى الحب العظيم الذي يكنه زوربا لبلده اليونان؛ والأمر كذلك فيما يتعلق بسيد أحمد الحاردلو. ما نعنيه هنا شيئان، أولهما توجيه الإدانة للشعب والوطن من منطلق عدم الرضا بحالهما وعشماً في أن يكون حالهما أفضل مما عليه. وثانيهما توجيه اللعنات والإدانة لشعب آخر، إما تعبيراً عن كُره أو أذى لحق به من دولة ذلك الشعب. دعونا نبدأ بالشّق الأول، ألا وهو التنفيس عن المرارات والخيبات بإسقاطها على الشعب أو الوطن من باب نقد الشعب والوطن وعدم الرضا بحالهما. فمن يلعن شعباً ما أو وطنَاً ما، عليه أن يُجيب على جملة التساؤلات التالية: إن كان ينتمي للشعب والوطن اللذين يلعنهما، عندها ينبغي له أن يبدأ بنفسه كونه جزءاً من هذا الشعب الذي يلعنُه. فإذا فعل ذلك، باء بفِعلته وحده وعندها وجب عليه التزام الصمت كونه ملعون من نفسه وفاقد لأهلية توجيه النقد. فمن يُعلنُ أنه ملعون وفاشل وجبان، لا يحق له أن يتصدى لتقويم الآخرين. أمّا إذا لم يكن ينتمي للشعب أو الوطن الذي يلعنهما من منطلق عدم الرضا بحالهما، عندها فليلزم الصمت كونه لا يحقّ له ذلك. فهو غير معني بهما لانتفاء الاختصاص. فكلّ امرئٍ مختصّ بإصلاح وطنه دون أوطان الآخرين. وطبعاً لا نعني توجيه النقد لأي شعب أو بلد، لكنا نعني تسجيل اللعنات والتجريم والإدانة. كأن يقول الواحد منا: الشعب السوداني دا شعب تافه وجبان عشان كدا ما قادر يفجّر أي ثورة ضد الديكتاتورية. عندها ينبغي عليه أن يعترف ابتداءً أنه هو نفسُه تافه كونه فرداً من هذا الشعب الذي يريد أن يدمغه بالتفاهة. فإذا فعل هذا، جرّد نفسه من أهلية إلصاق تهمة التفاهة بأي جهة أخرى بخلاف نفسه. وكذلك نعني أن يقول الواحد منا، نحن السودانيين: الشعب المصري دا شعب تافه وجبان وعشان كدا ما قادر يطلع في ثورة يطيح فيها بنظام الحكم بتاع الرئيس الفلاني .. إلخ. فمجرد أنه غير مصري، عندها تنحجب عنه أهلية نقد الأوضاع هناك بزعم الحرص على مصلحة الشعب المصري أكثر من المصريين، كأن يكون ملكياً أكثر من الملك نفسه. وعلى هذا يمكن أن نقيس مواقف من يصدرون الأحكام الجُزافية ضد الشعوب، كأن تجد سودانياً يقول: العرب ديل أتفه أمة أُخرجت للناس! أو أن يقول أحد الخليجيين أو المصريين: السودانيين ديل شعب تافه .. إلخ. هذا مهما كانت الفظائع التي قد تُنسب للشعب المعني (أو الوطن). عموماً فإن القاعدة الذهبية في هذا الشأن تقول بأنّ الشعوب لا تُدان مهما بدر من بعض قطاعاتها، قلّت أم كثرت، سلوك مشين. فالإنسان هو الإنسان، في أي مكان وأي زمان، مليء بالتناقضات من خير وشر. أما الشعب فهو مليء بالخير، مثلُه في ذلك كمثل كلّ الشعوب على وجه الأرض.

ضبابية مفهوم العرق
علمياً لا يوجد شيء اسمه العرق به ينماز إنسان عن أخيه الإنسان الآخر. فالبشر جميعاً ينتمون لعرق واحد هو النوع البشري. ولكن مع هذا توجد الإثنية وهي تختلف تماماً عن "العرقية" بالرغم من أنه في كثير من الأحايين تجري ترجمتُها على هذا النحو. ولكن آثر أغلب الباحثين استخدام كلمة "إثنية" (من ethnic) تحاشياً للبس الذي ينجم في حال ترجمتها إلى "عرقية". فبينما الوعي العرقي مجرد أيديولوجيا، نجد أن الوعي الإثني شيء واقعي ومعرّف كونه جماع الوعي بالسلالة (القرابة) والجغرافيا (البيئة)، بجانب القدرة على التواصل (اللغة) والسلوك (العادات)، وجماع كل هذا ما نجملُه في كلمة "الثقافة". هذا بينما العرق ليس سوى وعي أيديولوجي بحت، مهما بدا أنه شيء واقعي وملموس. وهذا يكشف ما يُعرف عن الأيديولوجيا بالضرورة وكيف أنها تزيّف الواقع وتخلق الوهم، ولا يوجد وهم أكبر من الإحساس بالتفوق العرقي. مرتبطةً مع وهم العرق، تأتي العنصرية التي يمكن تعريفها بصورة غير مخلة أنها زعم التميز عن الآخرين بافتراض أفضلية العرق بما يوجب التمتع بامتيازات مادية ومعنوية على حساب الآخرين الذي يفترض فيهم الانتماء لعرق آخر أقل درجةً. وهذا كله وهْم يعكس كيف يمكن للأيديولوجيا أن تزيّف الواقع وتجعل الإنسان يعيش في الأوهام.
للتّدليل على هذا دعونا نأخذ كلمة "العرب" التي يحيل إليها الكثير من السودانيين المناهضين للأيديولوجيا الإسلاموعروبية. فبالنظر النقدي، وإزاء التعميم الكبير الذي استُخدمت به، سنكتشف أنها كلمة ذات دلالات أيديولوجية أكثر منها واقعية. فمن هم العرب؟ أقصر الإجابات هي: العرب هم كل من نظر إلى نفسه أنه عربي. حسناً! هذا صحيح باعتبار أن الهوية ليست سوى اختراع بشري ومحض اختيار. فالنفس تختار ما تحبّه وتهوى إليه. هذا ما تقول به أنثربولوجيا الهوية! وهذا أيضاً صحيح باعتبار أنّ أيّ هوية (لاحظوا: "هوية" وليس عرقاً) لها مركزها كما لها هامشها، ثم الآخر المغاير لها تماماً بحسب حرايك وعيها وحرايك وعي هذا الآخر. وبالطبع، تاريخياً وواقعياً يمكن تحديد جزيرة العرب بأنها مركز الهوية العربية milieu of Arab identity، أو من جرى افتراضاً تسميتهم بالعرب العاربة في كتاباتنا لا لشيء سوى لوجودهم في الجزيرة العربية، أي توطّنهم في جغرافيا مركز الهوية العربية دون أن يُستثار عندهم سؤال العروبة من عدمها. ولهذا لا نجد هناك أيّ إشكالية مجتمعية تتعلق بتأكيد هذه الهوية، بينما نجد هذه المشكلة تضغط وبشدة في هامش مركز الهوية، مثل السودان وموريتانيا والصومال ومالي وتشاد .. إلخ. فإذا أقرّ مركز الهوية لشخص ما بأنّه عربي، ثمّ شعر هو نفسه بأنه عربي، وكذلك شهد له الآخر (ولنقل أوروبا البيضاء ـــ لاحظوا أن البياض هناك أيضاً مجازي) بأنه عربي، فعندها لا تصبح لدى هذا الشخص أي مشكلة تتعلق بهويته. لكن إذا زعم شخص ما بأنه عربي، بينما لم يعترف له مركز الهوية العربية بأنه عربي، وكذلك لم ينظر إليه الآخر على أنه عربي، عندها سيعاني هذا الشخص من أزمة في هويته. لاحظوا: كل هذا باعتبار الهوية، لا العرق! وعليه، لا زلنا في مواجهة السؤال التالي: من هم العرب عرقياً؟
بمجرد نشوب هذه المنازعة في بعض وسائط التواصل الاجتماعي بخصوص العرق كتصوّر موجود داخل فضاء الأيديولوجيا، أشار لي أكثر من صديق إلى الروابط العلمية التي تتحدث عن هذا. من ذلك ما أشار لنا به صديقنا وتكرّم، دكتور ناظم يعقوب، لافتاً نظرنا ورافداً لنا بالمرجع (Stuart Hall, 1997, Race, the Floating Signifier)، وكذلك ما أشار به أخونا دكتور قصي همرور في مقال أخير له بمدونته على الشبكة بعنوان "العرق كصنعة اجتماعية" إلى تلخيص مهم نقله من الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية والسلوكية International Encyclopaedia of the Social and Behavioural Sciences، وهي موسوعة أكاديمية، ما يؤكد الآراء التي استعرضناها بوصفها أمراً معترفاً بها في الدراسات الاجتماعية. وقد جاء استعراضه من الموسوعة تحت عنوان "علم اجتماع الإثنية" على أن مكوّنات الإثنية كما هي متعارف عليها في علم الاجتماع تتعلق بما يميز المجموعة الإثنية كهوية جماعية من وجهة نظر أفرادها، من حيث: (أ) كيفية شعورهم تجاه بقية أعضاء المجموعة؛ (ب) القيم أو الرموز أو التقاليد المميزة أو الأصيلة التي يرون أن مجموعتهم الإثنية تحظى بها؛ (ج) كيف، وفقا لذلك، يميز أفرادها أنفسهم عن الآخرين. وهذه العوامل كلها تتعلق بالوعي الذاتي للمجموعة الإثنية، بما يعني أنه وعي لا يوجد إلا في داخل الذات، وليس خارجها، مثلاً، كأن يكون وعياً موضوعياً.